فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{الحاقة} اسم فاعل، من حق الشيء يحق إذا كان صحيح الوجود، ومنه {حقت كلمة العذاب} [الزمر: 71]، والمراد به القيامة والبعث، قاله ابن عباس وقتادة، لأنها حقت لكل عامل عمله. وقال بعض المفسرين: {الحاقة} مصدر كالعاقبة والعافية، فكأنه قال: ذات الحق. وقال ابن عباس وغيره: سميت القيامة حاقة، لأنها تبدي حقائق الأشياء واللفظة رفع بالابتداء، و{ما}، رفع بالابتداء أيضا، و{الحاقة} الثانية: خبر {ما}، والجملة خبر الأول، وهذا كما تقول: زيد ما زيد، على معنى التعظيم له والإبهام في التعظيم أيضا، ليتخيل السامع أقصى جهده. وقوله تعالى: {وما أدراك ما الحاقة} مبالغة في هذا المعنى: أي أن فيها ما لم تدره من أهوالها، وتفصيل صفاتها. {وما}، تقرير وتوبيخ. وقوله تعالى: {ما الحاقة} ابتداء وخبر في موضع نصب ب {أدراك}، و{ما} الأولى، ابتداء وخبرها {أدراك ما الحاقة}، وفي {أدراك}، ضمير عائد على {ما} هو ضمير الفاعل. ثم ذكر تعالى تكذيب {ثمود وعاد} بهذا الأمر الذي هو حق مشيرا إلى أن من كذب بذلك ينزل عليه مثل ما نزل بأولئك. و{القارعة} من أسماء القيامة أيضا، لأنها تقرع القلوب بصدمتها، و{ثمود} اسم عربي معرفة، فإذا أريد به القبيلة لم ينصرف، وإذا أريد به الحي انصرف، وأما {عاد}: فكونه على ثلاثة أحرف ساكن الوسط دفع في صدر كل علة فهو مصروف. و{الطاغية} قال قتادة: معناه الصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة، وقال قوم: المراد بسبب الفئة الطاغية، وقال آخرون منهم مجاهد وابن زيد: المعنى بسبب الفعلة الطاغية التي فعلوها. وقال ابن زيد: ما معناه: {الطاغية} مصدر كالعاقبة فكأنه قال بطغيانهم، وقاله أبو عبيدة ويقوي هذا {كذبت ثمود بطغواها} [الشمس: 11] وأولى الأقوال وأصوبها الأول لأنه مناسب لما ذكر في عاد، إذ ذكر فيها الوجه الذي وقع به الهلاك، وعلى سائر الأقوال لا يتناسب الأمران لأن طغيان ثمود سبب والريح لا يناسب ذلك لأنها ليست سبب الإهلاك، بل هي آلة كما في الصيحة، و: (الصرصر) يحتمل أن يكون من الصر أي البرد، وهو قول قتادة، ويحتمل أن يكون من صر الشيء إذا صوت، فقال قوم: صوت الريح {صرصر}، كأنه يحكي هذين الحرفين. و(العاتية) معناه: الشديدة المخالفة، فكانت الريح عتت على الخزان بخلافها وعتت على قوم عاد بشدتها. وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس أنهما قالا: إنه لم ينزل من السماء قطرة ماء إلا بمكيال على يد ملك ولا هبت ريح إلا كذلك إلا ما كان من طوفان نوح وريح عاد، فإن الله أذن لهما في الخروج دون إذن الخزان.
والتسخير: استعمال الشيء باقتدار عليه. وروي أن الريح بدأت بهم صبح يوم الأربعاء لثمان بقين لشوال، وتمادت بهم إلى آخر يوم الأربعاء تكملة الشهر. و{حسوما}، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وأبو عبيدة معناه: كاملة تباعا لم يتخللها غير ذلك، وهذه كما تقول العرب ما لقيته حولا محرما، قال الشاعر طفيل الغنوي: الطويل:
عوازب لم تسمع نبوح مقامة ** ولم تر نارا ثم حول محرم

وقال الخليل: {حسوما}، أي شؤما ونحسا، وقال ابن زيد: {حسوما} جمع حاسم كجالس وقاعد، ومعناه أن تلك الأيتام قطعتهم بالإهلاك، ومنه حسم العلل ومنه الحسام. والضمير في قوله {فيها صرعى} يحتمل أن يعود على دارهم وحلتهم لأن معنى الكلام يقتضيها وإن لم يلفظ بها. قال الثعلبي، وقيل يعود على الريح، وقد تقدم القول في التشبيه ب {أعجاز النخل} في سورة {اقتربت الساعة}. والخاوية: الساقطة التي قد خلت أعجازها بِلى وفسادا. ثم وقف تعالى على أمرهم توقيف اعتبار ووعظ بقوله: {هل ترى لهم من باقية} اختلف المتأولون في: {باقية}، فقال قوم منهم ابن الأنباري: هي هاء مبالغة كعلامة ونسابة والمعنى من باق. وقال ابن الأنباري أيضا معناه: من فئة باقية وقال آخرون: {باقية} مصدر فالمعنى من بقاء. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {الحاقة ما الحآقة}
يريد القيامة؛ سُميّت بذلك لأن الأمور تُحقّ فيها؛ قاله الطبري.
كأنه جعلها من باب (ليل نائم).
وقيل: سُمِّيت حاقة لأنها تكون من غير شك.
وقيل: سُمِّيت بذلك لأنها أحقّت لأقوام الجنة، وأحقّت لأقوام النار.
وقيل: سُمِّيت بذلك لأن فيها يصير كل إنسان حقيقا بجزاء عمله.
وقال الأزهريّ: يقال حاققته فحققْتُه أُحقّه؛ أي غالبته فغلبته.
فالقيامة حاقّة لأنها تحُقّ كلّ محاقٍّ في دين الله بالباطل؛ أي كل مخاصم.
وفي الصحاح: وحاقّه أي خاصمه وادّعى كل واحد منهما الحق؛ فإذا غلبه قيل حقّه.
ويقال للرجل إذا خاصم في صِغار الأشياء: إنه لنزِق الحِقاق.
ويقال: ما له فيه حق ولا حِقاق؛ أي خصومة.
والتحاقّ التخاصم.
والاحتقاق: الاختصام.
والحاقة والحقّة والحقّ ثلاث لغات بمعنى.
وقال الكسائي والمؤرِّج: الحاقّة يوم الحقّ.
وتقول العرب: لمّا عرف الحقّة منّي هرب.
والحاقّة الأولى رفع بالابتداء، والخبر المبتدأ الثاني وخبره وهو {ما الحآقة} لأن معناها ما هي.
واللفظ استفهام، معناه التعظيم والتفخيم لشأنها؛ كما تقول: زيد ما زيد! على التعظيم لشأنه.
{ومآ أدْراك ما الحاقة} استفهام أيضا؛ أي أيّ شيء أعلمك ما ذلك اليوم.
والنبيّ صلى الله عليه وسلم كان عالما بالقيامة ولكن بالصفة.
فقيل تفخيما لشأنها: وما أدراك ما هي؛ كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها.
وقال يحيى بن سلام: بلغني أن كل شيء في القرآن {وما أدْراك} فقد أدراه إياه وعلمه.
وكل شيء قال: {وما يُدْرِيك} فهو مما لم يعلمه.
وقال سفيان بن عُيينة: كل شيء قال فيه: {ومآ أدْراك} فإنه أُخبر به، وكل شيء قال فيه: {وما يُدْرِيك} فإنه لم يخبر به.
{كذّبتْ ثمُودُ وعادٌ بِالْقارِعةِ (4)}
ذكر من كذب بالقيامة.
والقارعة القيامة؛ سُمّيت بذلك لأنها تقرع الناس بأهوالها.
يقال: أصابتهم قوارع الدهر؛ أي أهواله وشدائده.
ونعوذ بالله من قوارع فلان ولواذعه وقوارِص لسانه؛ جمع قارصة وهي الكلمة المؤذية.
وقوارع القرآن: الآيات التي يقرؤها الإنسان إذا فزِع من الجن أو الإنس، نحو آية الكرسيّ؛ كأنها تقرع الشيطان.
وقيل: القارعة مأخوذة من القُرْعة في رفع قوم وحطّ آخرين؛ قاله المبرد.
وقيل: عنى بالقارعة العذاب الذي نزل بهم في الدنيا؛ وكان نبيّهم يخوّفهم بذلك فيكذبونه.
وثمود قوم صالح؛ وكانت منازلهم بالْحِجر فيما بين الشام والحجاز.
قال محمد بن إسحاق: وهو وادي القُرى؛ وكانوا عُرْبا.
وأما عاد فقوم هود؛ وكانت منازلهم بالأحقاف.
والأحقاف: الرمل بين عُمان إلى حضرموت واليمن كله؛ وكانوا عُرْبا ذوي خلْق وبسْطة؛ ذكره محمد بن إسحاق. وقد تقدم.
{فأمّا ثمُودُ فأُهْلِكُوا بِالطّاغِيةِ (5)}
فيه إضمار؛ أي بالفعلة الطاغية.
وقال قتادة: أي بالصيحة الطاغية؛ أي المجاوزة للحدّ؛ أي لحدّ الصيحات من الهول.
كما قال: {إِنّآ أرْسلْنا عليْهِمْ صيْحة واحِدة فكانُواْ كهشِيمِ المحتظر} [القمر: 31] والطغيان: مجاوزة الحدّ؛ ومنه: {إِنّا لمّا طغا الماء} أي جاوز الحدّ.
وقال الكلبيّ: بالطاغية بالصاعقة.
وقال مجاهد: بالذنوب.
وقال الحسن: بالطغيان؛ فهي مصدر كالكاذبة والعاقبة والعافية.
أي أهلكوا بطغيانهم وكفرهم.
وقيل: إن الطاغية عاقرُ الناقة؛ قاله ابن زيد.
أي أهلكوا بما أقدم عليه طاغيتهم من عقْر الناقة، وكان واحدا، وإنما هلك الجميع لأنهم رضُوا بفعله ومالئوه.
وقيل له طاغية كما يقال: فلان راوية الشعر، وداهية وعلاّمة ونسّابة.
قوله تعالى: {وأما عادٌ فأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صرْصرٍ} أي باردة تحْرِق ببردها كإحراق النار؛ مأخوذ من الصِّر وهو البرد؛ قاله الضحاك.
وقيل: إنها الشديدة الصوت.
وقال مجاهد: الشديدة السّموم.
{عاتِيةٍ} أي عتت على خُزّانها فلم تطعهم، ولم يطيقوها من شدّة هبوبها؛ غضبت لغضب الله.
وقيل: عتت على عاد فقهرتهم.
روى سفيان الثوري عن موسى بن المسيّب عن شهْر بن حوْشب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أرسل الله من نسمة من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من ماء إلا بمكيال إلا يوم عاد ويوم نوح فإن الماء يوم نوح طغى على الخُزّان فلم يكن لهم عليه سبِيل ثم قرأ {إِنّا لمّا طغا الماء حملْناكُمْ فِي الجارية} والريح لما كان يوم عاد عتت على الخُزّان فلم يكن لهم عليها سبيل ثم قرأ {بِرِيحٍ صرْصرٍ عاتِيةٍ}» {سخّرها عليْهِمْ} أي أرسلها وسلّطها عليهم.
والتسخير: استعمال الشيء بالاقتدار.
{سبْع ليالٍ وثمانِية أيّامٍ حُسُوما} أي متتابعة لا تفْتِرُ ولا تنقطع؛ عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما.
قال الفرّاء: الحُسُوم التِّباع، من حسْمِ الدّاء إذا كُوِي صاحبُه، لأنه يُكْوى بالمِكواة ثم يُتابع ذلك عليه.
قال عبد العزيز بن زُرارة الكِلابيّ:
ففرّق بين بينهم زمان ** تتابع فيه أعوامٌ حسومُ

وقال المبرّد: هو من قولك حسمْتُ الشيء إذا قطعته وفصلته عن غيره.
وقيل: الحسْم الاستئصال.
ويقال للسيف حُسام؛ لأنه يحْسِم العدوّ عما يريده من بلوغ عداوته.
وقال الشاعر:
حُسامٌ إذا قمتُ مُعْتضِدا به ** كفى الْعوْد منه البدْءُ ليس بِمْعضدِ

والمعنى أنها حسمتهم، أي قطعتهم وأذهبتهم.
فهي القاطعة بعذاب الاستئصال.
قال ابن زيد: حسمتهم فلم تُبق منهم أحدا.
وعنه أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوعبتها، لأنها بدأت طلوع الشمس من أوّل يومٍ وانقطعت غروب الشمس من آخر يوم.
وقال اللّيث: الحسوم الشؤوم.
ويقال: هذه ليالي الحسوم، أي تحْسِم الخير عن أهلها، وقاله في الصحاح.
وقال عكرمة والربيع بن أنس: مشائيم، دليله قوله تعالى: {في أيّامٍ نّحِساتٍ} [فصلت: 16] عطِية العوْفِي: {حُسُوما} أي حسمت الخير عن أهلها.
واختلف في أوّلها، فقيل: غداة يوم الأحد، قاله السدّي.
وقيل: غداة يوم الجمعة، قاله الربيع بن أنس.
وقيل: غداة يوم الأربعاء، قاله يحيى بن سلام ووهب بن مُنبِّه.
قال وهب: وهذه الأيام هي التي تسمّيها العرب أيام العجوز، ذات برد وريح شديدة، وكان أولها يوم الأربعاء وآخرها يوم الأربعاء؛ ونُسبت إلى العجوز لأن عجوزا من عادٍ دخلت سربا فتبعتها الريح فقتلتها في اليوم الثامن.
وقيل: سُمِّيت أيام العجوز لأنها وقعت في عجز الشتاء.
وهي في آذار من أشهر السُّرْيانيّين.
ولها أسامٍ مشهورةٌ، وفيها يقول الشاعر وهو ابن أحمر:
كُسِع الشتاءُ بسبعة غُبْرٍ ** أيامِ شهْلتِنا من الشّهْرِ

فإذا انقضت أيامها ومضت ** صِنٌّ وصنّبْرٌ مع الوبْرِ

وبآمرٍ وأخيه مُؤْتمِرٍ ** ومُعلِّل وبمُطْفِئ الجمْرِ

ذهب الشتاء مُولِّيا عجِلا ** وأتتك واقدة من النّجْرِ

و{حُسُوما} نصب على الحال.
وقيل على المصدر.
قال الزجاج: أي تحْسِمهم حسوما، أي تُفْنيهم، وهو مصدر مؤكّد.
ويجوز أن يكون مفعولا له؛ أي سخّرها عليهم هذه المدّة للاستئصال؛ أي لقطعهم واستئصالهم.
ويجوز أن يكون جمع حاسم.
وقرأ السّدي {حسُوما} بالفتح، حالا من الريح؛ أي سخّرها عليهم مستأصلة.
قوله تعالى: {فترى القوم فِيها} أي في تلك الليالي والأيام.
{صرعى} جمع صرِيع؛ يعني موتى.
وقيل: {فِيها} أي في الريح.
{كأنّهُمْ أعْجازُ} أي أصول.
{نخْلٍ خاوِيةٍ} أي بالية؛ قاله أبو الطفيل.
وقيل: خالية الأجواف لا شيء فيها.
والنخل يذكّر ويؤنّث.
وقد قال تعالى في موضع آخر: {كأنّهُمْ أعْجازُ نخْلٍ مُّنقعِرٍ} [القمر: 20] فيحتمل أنهم شُبِّهوا بالنخل التي صرعت من أصلها، وهو إخبار عن عِظم أجسامهم.
ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع؛ أي إن الريح قد قطعتهم حتى صاروا كأصول النخل خاوية.
أي الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخلة الخاوية الجوف.
وقال ابن شجرة: كانت الريح تدخل في أفواههم فتُخرج ما في أجوافهم من الحشْو من أدبارهم، فصاروا كالنخل الخاوية.
وقال يحيى بن سلام؛ إنما قال: {خاوية} لأن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية.
ويحتمل أن يكون المعنى كأنهم أعجاز نخل خاوية عن أصولها من البقاع؛ كما قال تعالى: {فتِلْك بُيُوتُهُمْ خاوِية} [النمل: 52] أي خرِبة لا سُكّان فيها.
ويحتمل الخاوية بمعنى البالية كما ذكرنا؛ لأنها إذا بلِيت خلت أجوافها. فشُبِّهوا بعد أن هلكوا بالنخل الخاوية.
{فهلْ ترى لهُمْ مِنْ باقِيةٍ (8)}
أي من فِرْقة باقية أو نفس باقية.
وقيل: من بقيّة.
وقيل: من بقاء.
فاعلةٍ بمعنى المصدر؛ نحو العاقبة والعافية.
ويجوز أن يكون اسما؛ أي هل تجد لهم أحدا باقيا.
وقال ابن جُريج: كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الله من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا، فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر فذلك قوله عز وجل: {فهلْ ترى لهُم مِّن باقِيةٍ}، وقوله عز وجل: {فأْصْبحُواْ لا يرى إِلاّ مساكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25]. اهـ.